1
اكتب تعليقُا

الامتنان السينمائي الفلسطيني لوليد شميط

لم نلتقِ من بعد اندلاع الحرب الكارثية على أهلنا في قطاع غزة. حالنا كحال غيرنا، إذ لم تسمح فداحةُ المصاب بفرصٍ للقاء والحديث في موضوعها أو مواضيع غيرها. كانت “فلسطين” تخرج في كلامه كثيراً، يذكرها في حديثه السينمائي والسياسي، وفي ذكرياته عن زمنٍ كان للفلسطينيين فيه ثورتهم وسينما هذه الثورة. كانت تكثر في أحاديثه قبل الحرب كما يمكن أن تكثر في أحاديث غيره من بعدها.

انقضت اللقاءات برحيل وليد شميط قبل أيام، الناقد السينمائي اللبناني، الاسم الأساسي في كل حديث عن سينما الثورة الفلسطينية والسينما البديلة العربية، تحديداً في أعوام السبعينيات.

بصدفةٍ التقيتُ به، ومن كرمه تكرّرت هذه اللقاءات، في العاصمة الفرنسية، لنخرج أخيراً بطبعة جديدة من كتابه الموسوعي “فلسطين في السينما”. ولا يسع أحدنا، في لقاءات على طول العامين الأخيرين، سوى الملاحظة السريعة ثم المتكرّسة، لمدى الدماثة والإيثار لدى شميط، المتحدث عن الآخرين دائماً. وكتابه هذا، أوّل إشارة لذلك، فهو مقالات آخرين ومقابلاتهم، ترجمها شميط مضيفاً إليها مواد له، تتناول، جميعها، السينما الفلسطينية من جوانب مختلفة. ما جعله، الكتاب الجماعي، مرجعاً أوّلياً لهذه السينما في زمنها الثوري.

كنت أحضّر للشروع في كتاب عن السينما الفلسطينية، قبل أكثر من عامين، وبذلك عرفت عن كتابٍ لوليد شميط وغي هينبل هو “فلسطين في السينما”، وأدركت أهميته من خلال قراءة المتوفر عنه، أما إمكانية الحصول عليه فكانت شبه مستحيلة، فنسخته الأولى صدرت في بيروت عام ١٩٧٨، وهو ترجمة في معظمه لمعظم كتاب صدر بالفرنسية قبله بعام، بعنوان La Palestine et le Cińema. ثم أصدرت وزارة الثقافة الفلسطينية عام ٢٠٠٦ نسخة محدودة وبطباعة رديئة ومتخمة بالأخطاء وصلت حدّ تبديل عناوين الفصول.

سعيت إلى الطبعة الوحيدة الممكن الوصول إليها، وهي الصادرة عام ٢٠٠٦. صديق لي في رام الله استطاع إيجاد نسخة في أحد مكاتب الوزارة لتصويرها، فأرسل لي نسخةً أدركتُ من خلالها فداحة هذه الطبعة، تُقابلها فرادة كتابٍ كهذا. بحثتُ عن وليد شميط وعرفت من الصديق نجا الأشقر أنه مقيم في باريس، ذهبت إلى عرضٍ للفيلم النضالي “المقاومة – لماذا؟” ضمن عروض مهرجان السينما الفلسطينية في باريس للالتقاء بشميط الذي سيقدّم مداخلة بعد عرض الفيلم. من أوّل الحديث لحظت ويلحظ أحدنا ابتسامته المرحّبة بكلّ مقترب. واتفقت معه على لقاء هادئ حول كتابه الصادر قبل أكثر من ٤٠ عاماً، والمفقود حالياً.

لأهمية توافر نسخٍ جديدة ومنقَّحة من كتابه، ما احتجتُ له وما سيحتاجه كلّ باحث في هذا الموضوع، أدركتُ ضرورة العمل على إعادة إصداره، وطرحتُ الفكرة في أول لقاء مع شميط. اتفقنا على أن الكتاب جوهري لكل باحث وعامل وناقد في السينما الفلسطينية زمن الثورة، وفي السينما العربية البديلة آنذاك. واتفقنا أيضاً على أنّه غير متاح للباحثين والقرّاء، إلا -في أحسن الأحوال- استعارةً من مؤسسات في لبنان وفلسطين. من هنا سألته عن إمكانية إعادة إصداره، ومن دون أن أكمل الفكرة كما حضّرتُ لها، فرح بها ومنحني وللجهة الداعمة للمشروع، الحقوق لإعادة إصداره. طلبت منه كتابة مقدّمة للكتاب، فأوكل المهمّة لي.

هذا الكرم التلقائي واللطف الاستثنائي سهّل من إمكانية البحث عن ممول لهذا المشروع، وكان مؤسسة “فيلم لاب فلسطين” التي أظهرت اهتماماً به موازياً لاهتمام شميط، فتكفّلتْ بمصاريفه كاملةً، ووجدتُ ناشراً بحرفيّة “المؤسسة العربية للدراسات والنشر” الذي منح الكتاب ما يستحقه طباعياً وتوزيعياً. صدر “فلسطين في السينما” عام ٢٠٢٢ وصار متاحاً بعد ما يقارب نصف قرن من إصداره الأول.

للطبيعة الأرشيفية للكتاب، ولمكانته المرجعية، ولفقدانه أساساً، لم يكن العمل عليه سهلاً. اعتمدتُ على نسختين: أولهما طبعة مصوَّرة وقديمة بعض أطرافها متآكل، من الكتاب بنسخته الأولى، أعارني إياها شميط ولم يتوفر لديه غيرها، تنقصها بعض الصفحات. وثانيهما الطبعة المصوَّرة (٢٠٠٦) من كتابٍ ممتلئ بالأخطاء، من تنسيق العناوين والفقرات إلى أسماء الأفلام مروراً بتسرّعات طباعية فجّة. أجرينا عملية “سْكان” للكتابين، تعاملتْ “فيلم لاب” مع مختصّ للتنضيد والتدقيق. أجريتُ المقارنات والتصحيح والتحرير للنسخة الجديدة، وأمامي الطبعتان المصورتان لنسختَي عام ١٩٧٨ و ٢٠٠٦، معدِّلاً بعض المعلومات اعتماداً على مراجع الكترونية. أنهينا العمل وكتبتُ المقدمة وأودعنا الكتاب لدى الناشر.

تابع وليد شميط عمليات الإصدار بشغف. أخبرني مراراً أنه يشعر بأن الكتاب الآن يصدر أوّل مرة من جديد. سأل في كلّ لقاء عن أماكن توزيعه، عن إتاحته. حاولنا تنظيم حفل إطلاق له في إحدى زياراته إلى بيروت لكن أموراً تتعلق بالبلاد هناك وأوضاعها حالت دون ذلك. كان بلهفة صاحب الكتاب الأول، لهفة طفولية تعززها طيبة وليد شميط ولطفه، وإن كان الحديث عن كتاب صدر أول مرة قبل عقود، وعن مؤلف له مشواره الطويل في الكتب والمقالات والمساهمات النقدية والسينمائية لبنانياً وفلسطينياً وعربياً. فأي حديث عن تاريخ النقد السينمائي العربي سيتناول حتماً اسمه.

بكتابه الموسوعي، الخارج من زمن الثورة والفيلم النضالي والسينما البديلة، بنصوص حيّة من ذلك الزمان وبلغته وأفكاره وآماله، وبوعيٍ باكر وخاص لشميط في تلقّف الكتاب الفرنسي والقيام مبادِراً ومنفرِداً، بترجمته وإتاحته للقارئ العربي (وللتاريخ)، في السبعينيات واليوم بعد كل هذه الأعوام، حين يبحث أحدهم عن مرجع أوّلي للكتابة عن سينما الثورة الفلسطينية بعدَ -لنقُل- قرن من تأسيسها، سيجد اسم وليد شميط أولاً.

بهذا الكتاب، ستكون السينما الفلسطينية، صناعةً وبحثاً ونقداً، ممتنةً أبداً إلى وليد شميط الذي أنقذ بكتابه صفحةً من تاريخٍ ثقافي وسياسي واجتماعي فلسطيني.

في موقع مؤسسة الدراسات الفلسطينية.

This entry was posted in: 1

بواسطة

روائي وناقد سينمائي فلسطيني، يعيش في باريس. مؤسّس ومحرّر "رمّان الثقافية". له «تأملات في الفيلم الفلسطيني» (٢٠٢٣)، والروايات: «عين الديك» و«سيناريو» و«تذكرتان إلى صفّورية».

للتعليق..

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.