1
اكتب تعليقُا

«توين بيكس: فايَر ووك ويذ مي» لديفيد لينش (١٩٩٢)

★★★★★

في مهرجان كان السينمائي الأخير، تم تقديم الموسم الثالث من مسلسل «توين بيكس» للأميركي ديفيد لينش، وذلك بعرض حلقتين في صالات السينما، وقبل أسابيع من اليوم بدأت عروض الموسم على شبكة «شوتايم» الأميركية و«كانال بلوس» الفرنسية، ورافق ذاك عرض فيلم «توين بيكس: فايَر ووك ويذ مي»» بنسخة مرممة وملصق خاص في الصالات الفرنسية.

أنجز لينش الفيلم عام ١٩٩٢، مباشرة إثر النجاح الملفت للموسمين الأول والثاني من المسلسل، فبعد عام منهما نزل إلى الصالات. لكن الفيلم لم يكن النسخة السينمائية منه، أي لم يأت لتلخيص ثلاثين ساعة في ساعتين وربع. ولم يأت مكمّلاً لأحداثه، تابعاً لها زمانياً، في حال أراد تلبية رغبة مُشاهد المسلسل في معرفة ما يمكن أن يحصل أخيراً، وقد رأى المُشاهدُ المحققَ دايل كوبر في الدقيقة الأخيرة من الموسم الثاني، ينظر إلى المرآة وقد لبسته الرّوحُ الشريرة التي أتى إلى بلدة توين بيكس للتحقيق في الجرائم المسؤولة عنها. هذا ما نتوقّع أن يجيب عليه الموسم الجديد، الثالث، والذي يخرج بعد خمس وعشرين سنة من الموسمين، والمقترن، كما قال لينش، بالفيلم.

يأتي الفيلم كمكمّل للحكاية في المسلسل بتصوير الليلة التي سبقت الساعات الأولى فيه (أو في البايلوت وهي الحلقة الأولى من الموسم الأول)، حيث يجد أحدهم جثة لورا بالمر تطفو على مياه البحيرة وملفوفة بطبقات من البلاستيك. يحكي الفيلم عن الليلة التي سبقتها، وعن الأيام الأخيرة من حياة لورا، أي يصوّر المسار التراجيدي لهذه الشخصية التي أدّت عيوبٌ فيها إلى هذا المآل. فنعرف هوية القاتل في نهاية الفيلم، وهو الذي يتم التحقيق للوصول إليه طوال الموسم الأول من المسلسل وبعض حلقات الثاني. ما يعني أنه يتوجّب تفادي مشاهدة الفيلم للراغبين بمشاهدة المسلسل، لكن هذا الربط لا يعني أن مشاهدة أحدهما تحتّم مشاهدة الآخر.

نحن هنا أمام عملين فنيّين منفصلين كما أنهما متكاملان، إنّما مشاهدة أحدهما لا تحتّم مشاهدة الآخر، فكل منهما يبدأ وينتهي باكتفاء مُشاهده منه، وإن كان لا بد من ربط فهو مشاهدة الفيلم بعد المسلسل. لكن «توين بيكس» لا ينتهي هنا، بالفيلم والمسلسل بمواسمه الثلاثة، فهنالك ما يقارب الساعتين من المشاهد المحذوفة والتي تمّ عرضها، سينمائياً كذلك، مؤخراً في فرنسا.

يبدأ الفيلم بتحطيم للتلفزيون، كأنّه يقدّم نفسه كعمل منفصل عن المسلسل، كأنه تحطيم لكل ما شاهدناه في المسلسل للبدء من الصفر في فيلم لا نعرف عن حكايته شيئاً، وفعلاً لا نعرف عن حكايته غير أنّ هذه الشقراء سيتم قتلها، سنعرف عن عمليات التحقيق في قتلها لكن ذلك لن يضيف شيئاً إلى أحداث الفيلم ذاته، حتى التكرار في الشخصيات، شخصيات المسلسل المتواجدة في الفيلم، ليس من الضروري معرفة قصّة كل منها في المسلسل.

يصوّر الفيلم، بدايةً، عمليات التحقيق في جريمة قتل تيريزا باكنس، والتي جرى الإشارة مراراً إليها في المسلسل، يمتد ذلك لنصف ساعة تقريباً قبل أن تختفي القصة وشخصياتها وتبقى معلّقة، فيمرّ عام وندخل فوراً في حكاية قتل لورا بالمر، بإشارات إلى أن القاتل هو نفسه، فيبدأ الفيلم بتصوير الأيام الأخيرة من حياة لورا (الجميلة شيريل لي)، طالبة ثانوية، مدمنة كوكايين ومتعددة العلاقات الجنسية كما أنها تمارس الدعارة لدى صاحب بار على الجانب الكندي من الحدود، مضطربة نفسياً إذ أنها تختلق شخصية، روحاً شريرة، اسمها بوب، تغتصب لورا منذ كانت طفلة في الثانية عشرة، دون أن نكون أكيدين من الشخصية التي تجسدها في حياة لورا الواقعيّة، لكن تتداخل هذه الروح مع إحدى الشخصيات القريبة من لورا، والتي ترتكب الجريمة أخيراً.

في الفيلم العديد من الشخصيات التي لا تظهر إلا لدقائق قليلة، لكن سيكون لها دوراً هاماً في المسلسل لاحقاً، فحضورها في فيلم بساعتين ليس كحضورها في مسلسل بثلاثين ساعة. الشخصيات الأساسية في الحكاية كلّها، تحضر بشكل دائم في الفيلم، وتكون علاقة لورا معها، مع صديقتها وحبيبها وآخرين، متوتّرة وتخضع لمزاجيتها وحالتها النفسية وسذاجتها في الوقت ذاته، فتنتهي القصة بمخدّرات واغتصاب وأخيراً جريمة قتل. يلفّها القاتل بالبلاستيك ويرميها في البحيرة حيث ستبدأ أحداث المسلسل في صباح اليوم التالي.

الفيلم (Twin Peaks: Fire Walk with Me) من إخراج ديفيد ليش، وكتابته هو وروبرت إنجلز، وقد شارك في مهرجان كان السينمائي عام ١٩٩٢وقوبل بالاستهجان، كما أنّه تلقى تقييمات نقدية سيّئة للغاية، إلا أنّه الآن يُعدّ من أهم أفلام الرعب في تاريخ السينما، رعب سيكولوجي يأتي من العوالم الداخلية لشخصياته، وله أجواؤه السريالية الخاصة والتي تحول دون فهم العديد مما نراه أو نسمعه في الفيلم (دون أن نضطر لفهم كل ما يدور في فيلم لينش هذا وباقي أفلامه، ودون أن تحمل تفسيراً واحداً صحيحاً لها)، متداخل هذا الرعب مع جريمة صوّرها لينش بأسلوب تراجيدي يلائم مصير هذه الشخصية التي أودت بها هشاشتُها، كامرأة، في وسط قوى ذكورية، إلى ليلة من الاغتصاب من رجلين والقتل من رجل آخر كان آخِر من يمكن أن يفعلها.

كما في جميع أفلام لينش، هنالك تأثير واضح للصوت، للموسيقى، للضجيج، لتداخلها كلّها، لاستخدام بعضها في أكثر من موقع، تكون عادية في مشهد وغامضة في آخر، طريقة الكلام، لحظات الصمت، هذه كلّها ساحة أساسية في الفيلم وفي باقي أفلام لينش، تحكي القصة تماماً كما يفعل السيناريو والصورة.

نتاجات فنية قليلة استطاعت أن تكون ظاهرة ثقافية، «توين بيكس»، بمسلسله وفيلمه، استطاع أن يكونها، بل أن يكون من بين أبرزها، وهذا العام تحديداً مع الموسم الثالث للمسلسل والنسخة المرممة للفيلم والنتاجات الفنية والتجارية المتعددة والمتعلقة بـ «توين بيكس» وشخصياتها وأمكنتها ورموزها.

في القدس العربي

 

This entry was posted in: 1

بواسطة

روائي وناقد سينمائي فلسطيني، يعيش في باريس. مؤسّس ومحرّر "رمّان الثقافية". له «تأملات في الفيلم الفلسطيني» (٢٠٢٣)، والروايات: «عين الديك» و«سيناريو» و«تذكرتان إلى صفّورية».

للتعليق..

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.