1, الأولى
اكتب تعليقُا

في تراكم ثقافةٍ سينمائيّة فلسطينيّة

يبدأ مؤلفا الكتاب، وليد شميط وغي هينبل، تقديمَه بالسؤال “هل السينما الفلسطينية موجودة؟ وما هي؟” موضّحين أن الكتاب ليس محاولة لإيجاد إجابة عن هذا السؤال.

بغض النظر عن كون الكتاب بحد ذاته، في مضمونه، في تنوّعه وشموليّته، يعطي فعلاً إجابة واضحة ومفصّلة عن طبيعة هذه السينما، مفترضاً وجودها أساساً، والحديث هنا عن سبعينيات القرن العشرين، نتخطى نحن، اليوم، بعد أكثر من أربعين عاماً على صدوره، وخمسين عاماً على أوّل نشرٍ لبعض محتواه، كندوة “السينما والقضية الفلسطينية” المنشورة في مجلة “شؤون فلسطينية” عام 1972، وفيها أفكار أساسية للإجابة عمّا كانته السينما الفلسطينية في بداياتها، آنذاك، نتخطى اليوم أول سؤال بالإجابة، وبإدراكٍ تراكمي وبأثر رجعي، بأنها كانت موجودة عامَ صدور الكتاب، وأنها لا تزال كذلك، وإن مرّت هذه السينما بأكثر من أزمة بعد الانقطاع الذي طالها في إثر الخروج من بيروت. لننتقل، اليوم، إلى الشق الثاني من السؤال وهو “ما هي؟”

امتدادُ الصناعة السينمائية الفلسطينية في النصف قرن الأخير، أو أكثر، وتراكمُ الأفلام وتنوّع منابعها وتفاوت مقارباتها للقضية الفلسطينية، ومرجعيات صنّاعها ومواقعهم، كل ذلك منح هذا السؤال (ما هي؟) طبيعةً في إجابته هي أشبه بما كانته الثورة الفلسطينية، أي السياق الذي تأسست ضمنه هذه السينما، وأشبه بما تكونه القضية الفلسطينية اليوم، في كونها فكرة حق وحقوق وحرية وحريات.

هذا الكتاب إجابة وافية وباكرة عمّا كانته وعمّا تكونه السينما الفلسطينية، وقد نشأت في شكلها الأوّل الجماعي والمؤسساتي والناضج مع هذه الثورة، بصفتها سينما ثورة وقضية، الانتماء إليها يكون خياراً ويكون نضالياً وفكرياً كما نفهم في أكثر من موقع ضمن هذه الصفحات، قد يكون أهمها البيان الأول لـ “وحدة أفلام فلسطين” المنتهي بأن “السينما فلسطينية ليست انتماء جغرافياً بل انتماء نضالي تجاه القضية الفلسطينية”.

إن كانت الغاية من الكتاب، في زمنه، تجميع مواد للمساهمة في النقاش لتحسين السينما المتعلّقة بالقضية الفلسطينية، كما ذكر المؤلفان، أي لأسباب نقاشية وراهنة في وقتها، فهو اليوم، للسبب ذاته، يُعد الوثيقة المجمَّعة الأكثر أهمية وشمولية في طبيعتها الأرشيفية وفي ضرورتها البحثية، مما وصلنا باللغة العربية، ولكونها مصدراً مباشراً للمهتمين والمتخصصين بسينما الثورة الفلسطينية والسينما العربية البديلة والعالمية الموازية لها. ما سعى إليه الكتاب في زمانه، وهو المساهمة الفكرية في نقاشٍ حي، جعل منه مادة حية من ذلك الزمان، على أساسه يمكن فهم لا السينما الفلسطينية في زمن ثورتها وحسب، بل المفاهيم والأنواع والتيارات والمواضيع والنقاشات في هذه السينما بعد كل هذه السنين، وهو ما يمكن أن يمتد في تأثيره إلى عموم السينما الفلسطينية اليوم.

لا يساهم الكتاب في النقاش حول “ما هي السينما الفلسطينية؟” وحسب، بل هو، في ذاته، مصدر أوّلي في تحديد طبيعة هذه السينما اليوم، فما كانت سينما نضالية وثورية وبديلة، وهي السمات الثلاث التي يمكن أن تجمع الأفلام الفلسطينية وأفلام القضية الفلسطينية -سواء كانت لصنّاع أفلام عرب أو فلسطينيين أو أجانب، وبإنتاج فلسطيني أو غيره- اتخذت لنفسها سمةَ السياسيّة اليوم، في عموم الأفلام الفلسطينية، مهما كان سياقها ومهما كانت حكايتها.

إدراك طبيعة السينما الفلسطينية في أوّل نشأتها، وهي بالسّمات التي ذكرتُها، أحدد منها الأشد حضوراً وأهميةً في سياقه، وهو النوع النضالي لهذه السينما، وهو ما يقدمه الكتاب بصفته مصدراً موسَّعاً له، إدراك تلك الطبيعة يمتدّ إلى ما تلا السينما النضالية من مراحل في السينما الفلسطينية، وإلى مبررات التغييرات الانقلابية في هذه السينما، في مرحلة ما بعد الخروج من بيروت، على طول الثمانينيات وصولاً إلى القرن الجديد، وفيها انقلبت صورة الفلسطيني من الفدائي في أفلام نضالية موازية للسينما النضالية في العالم، إلى صورة نقيضة للثوري المتمرّد على واقعه، هي صورة للناجي واللاجئ اللاحق لثورة أفلت وتشتّت أهلها، والعائد إلى المخيم والحائر. سياسيّة هذه السينما في زمن ما بعد الثورة، ندركها بإدراكنا للسياق السياسي لها، وهو ما يمد إدراكَنا إلى ما بعده، في أول عقدين وثلاثة من هذا القرن، وقد دخلت السينما الفلسطينية مرحلةً جديدة في شكلها وموضوعها.

الكتاب، «فلسطين في السينما»، ترجمةٌ لمعظم محتوى كتاب آخر صدر بالفرنسية أوائل عام ١٩٧٧ عن دار E. 100 للنشر في باريس، بعنوان La Palestine et le Cińema (فلسطين والسينما)، كعمل جماعي بإشراف الناقدَين الفرنسي غي هينبل والتونسي خميس خياطي، في ٢٩٤ صفحة. قام الناقد اللبناني وليد شميط، أحد النقّاد الحاضرة أسماؤهم في صحافة ذلك الزمان، الفلسطينية والعربية المتناولة لسينما الثورة الفلسطينية والسينما البديلة العربية، قام بترجمة الكتاب في معظمه وإضافة مواد له، مقالات ومقابلات، وأصدره العام التالي بالعربية عن دار “الفجر”، وهي دار نشر لبنانية صغيرة في باريس، يعرف شميط صاحبها فاقترح عليه نشر الكتاب الذي سيُطبَع في بيروت ويصدر عام ١٩٧٨.

هذا الكتاب بين أيديكم، هو إعادة طباعة للنسخة الصادرة عن دار “الفجر”، نسخة أمّنها لنا، لذلك، وليد شميط في باريس، مؤلف الكتاب وصاحب الحقوق له (وكانت وزارة الثقافة الفلسطينية أصدرت نسخة من الكتاب عام ٢٠٠٦). بذلك يكون هذا الكتاب استعادة مباشرة للكتاب الصادر قبل نحو نصف قرن من الزمان، ولا نطلق عليه نسخة ثانية أو ثالثة، فليس الحديث عن كتاب نفدت نسخته الأولى فأتى من يصدر الثانية، بل عن نسخة استعادية نسّقنا لها وحررناها في مهرجان “أيام فلسطين السينمائية”، لإصدارها ضمن الدورة التاسعة من المهرجان، ليرافق البرنامج الخاص الذي يعدّه المهرجان لمناسبة ٤٠ عاماً على الخروج من بيروت، بموازاة البرنامج الرئيسي للدورة.

في المكتبة العربية نقص واضح تجاه السينما الفلسطينية، ويمكن القول إن النقص يصل إلى الإصدارات باللغات الأخرى، وإن كان الحال أفضل هناك. نحاول بإعادة نشر هذا الكتاب وإتاحته للمهتمين بالثقافة السينمائية الفلسطينية، فتح مساحاتٍ لتناولٍ نقدي وفكري فعّال لهذه السينما في أزمنتها كافة، وتحديداً اليوم. نحاول، رفد المشهد السينمائي الفلسطيني اليوم بخط موازٍ يساهم في إثراء النقاش حولها وذلك بالبدء من أساساتها، من سينما الثورة.

كما أن السينما لا تكتفي بالأفلام والصالات والمهرجانات، ستبقى ناقصة دون ثقافة عامة فيها لجمهورها المحلي، ونقدية متخصصة بها للمشتغلين في جوانبها كافة، فالسينما معرفة بقدر ما هي مشاهدة. علّه، هذا الكتاب، يكون خطوة تُراكم على ما سبقها وتفتح آفاقاً جديدة لغيرها، في إثراء الثقافة السينمائية الفلسطينية.

 

مقدمة الكتاب الصادر قريباً عن المؤسسة العربية للدراسات والنشرفي عمّان، وبدعم من مؤسسة فيلم لاب فلسطينفي رام الله.

 

في تراكم ثقافةٍ سينمائية فلسطينية

This entry was posted in: 1،الأولى

بواسطة

روائي وناقد سينمائي فلسطيني، يعيش في باريس. مؤسّس ومحرّر "رمّان الثقافية". له «تأملات في الفيلم الفلسطيني» (٢٠٢٣)، والروايات: «عين الديك» و«سيناريو» و«تذكرتان إلى صفّورية».

للتعليق..

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.