1, الأولى
اكتب تعليقُا

«يد الله»… سورينتينو يصوّر حكايته

للإيطالي باولو سورينتينو فيلمان يمكن أن يكونا مقدِّمة لفيلمه «يد الله» الذي بدأت عروضه على “نتفلكس” قبل أيّام. أوّلهما هو «الجمال العظيم» (٢٠١٣) وثانيهما هو «شباب» (٢٠١٥). الفيلمان ممتازان، وقد يجتازا فيلمه هذا في جمالياتهما، تصويراً وسرداً، وإن لم يكن هذا “الحكم” حتمياً، ففيلمه الأخير الذي استعار عنوانه من اللاعب الأرجنتيني دييغو مارادونا، فيه ما يكفيه من الجماليات البصرية، بل وفي توافق هذه الجماليات مع قسمَي الفيلم الذَين يقدّم لهما كل من فيلمَي سورينتينو السابقين والمذكورين.

ليس «يد الله» فيلماً واحداً منسجماً في سرده وأجوائه، وهذا ما يجعل الإحالة الأوتوماتيكية في الحديث عنه، إلى الإيطالي فديريكو فلّيني، تسرّعاً خاطئاً. لا يمكن إحالة الفيلم بعمومه (أي بقسمَيه) إلى عمل واحد منسجم كما هي أعمال فلّيني الزاخرة بالاحتفالات والكرنفالات، وهي أفلام منسجمة حتى في بواكيرها التي حملت مآسي شخصياتها، بنسبٍ متفاوتة، وهي من آثار “النيورياليزم” الإيطالية التي بدأ من خلالها فلّيني مشواره السينمائي، قبل أن يكوّن لنفسه هويّة بصرية صار مرجعياً بها، فتُحال الأفلام إليه مع كلّ إشارة مهما صغرت، كما هو حال فيلم سورينتينو هذا.

وليس القول بعدم الانسجام بين نصفي فيلم سورينتينو ذمّاً، إنّما يحول دون إحالته، ككل، إلى أعمال منسجمة متكاملة، رغم الإشارة إلى فلّيني أكثر من مرّة في الفيلم، لكنّها إشارات غير رمزية بل هي جزء من يوميات شاب في مدينة نابولي، ابن طبقة متوسطة، يدرس الفلسفة ويحلم بأن يصير مخرجاً سينمائياً ويحب كرة القدم ومارادونا ونادي نابولي، وذلك في الثمانينيات، فالحديث عن فليني في أجواء كهذه هو حديث يومي ومحلّي لشاب كهذا، تماماً كما يكون الحديث عن مارادونا. فلا حضور فلّيني هو رمزي ولا كذلك حضور مارادونا، كلاهما حضور حياتيّ وعضويّ، خاصة إن تذكّرنا أنّ الفيلم سيرة ذاتية لسورينتينو.

حادثةٌ في منتصف الفيلم جعله من قسمين غير منسجمين، هي رحيل والدَي الشاب، باكراً وفجأة، فينقلب الفيلم وكذلك أمزجة شخصياته وكل ما فيه. قبل الحادثة كان الفيلم كوميديّاً وبعدها صار تراجيديّاً، قبلها كانت الألوان تعمّ المشاهد، الزرقة كانت للبحر وكانت برّاقة، وبعدها بهتت الألوان وعمّت الرماديةُ المشاهد، فصارت الزرقة للسماء وكانت قاتمة. النصف الأول للفيلم كان نموذجياً لفيلم كوميدي يمكن إحالته إلى فلّيني، والقسم الثاني كان نموذجياً لفيلم تراجيدي تمّ في الفيلم ذاته، في القسم، الإحالة إلى مسرحية «سالومي» لأوسكار وايلد، بمآسيها.

بصرياً وسردياً فارق سورينتينو بين قسمَي فيلمه، ناقلاً المشاهد، بسلاسة يمكن أن تمرّر الانتقال دون الإحساس به، ولعلّ اشتغاله على فيلمَيه السابقين هوّن مسألة الانتقال هذه، فأولهما، «الجمال العظيم»، كان أقرب إلى القسم الأول، وإلى أعمال فلّيني عموماً، وثانيهما، «شباب»، كان أقرب إلى القسم الثاني، بحالة تراجيديّة تحوم في أجواء الفيلم. لكن في كلا الفيلمين، كما في «يد الله»، حضرت فكاهة سورينتينو، في «جمال عظيم» كانت بالسخرية/الهزء، وفي «شباب» كانت بالسخرية/المفارقة.

في «يد الله» يصوّر سورينتينو رحلته إلى عالم السينما، انتقالَه من حب كرة القدم والفلسفة والموسيقى إلى ما يمكن أن تجتمع ثلاثتها في عالم واحد وهو السينما، يصوّر حياته يافعاً في نابولي، الحياة العائلية التقليدية في إيطاليا، إلى انتقاله الفردي ملاحقاً حلمه في روما، ليتعلم السينما ويصنعها. أفلام سورينتينو أتت أخيراً مليئة بالموسيقى، في «جمال عظيم» تحديداً، وكذلك بالفلسفة، في «شباب» تحديداً، أما كرة القدم فنجدها في الصعود والهبوط، دون مستويات مملة، في أفلامه عموماً، كأنّها، أفلامَه، عبارة عن هجمات وهجمات مرتدة.

“يد الله” التي أحرزت الهدف لمارادونا في مرمى انكلترا، بيده، في نهائيات كأس العالم عام ١٩٨٦، كانت، اليد، في الفيلم، تلك التي حالت دون مرافقة الشاب والديه في رحلتهما التي قضيا فيها خنقاً بالغاز، لأنّ مباراة لنابولي ومارادونا زامنت الرحلة/الحادثة وكان عليه البقاء للتشجيع، وأخيراً النجاة. 

الفيلم (The Hand of God) شارك في مهرجان فينيسيا السينمائي الأخير، ونال الجائزة الكبرى للجنة التحكيم، وجائزة مارتشيلّو ماستروياني لأفضل ممثل.

في القدس العربي

This entry was posted in: 1،الأولى

بواسطة

روائي وناقد سينمائي فلسطيني، يعيش في باريس. مؤسّس ومحرّر "رمّان الثقافية". له «تأملات في الفيلم الفلسطيني» (٢٠٢٣)، والروايات: «عين الديك» و«سيناريو» و«تذكرتان إلى صفّورية».

للتعليق..

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.