1
تعليقان 2

«قلعة العنكبوت» للياباني أكيرا كوروساوا (١٩٥٧)

★★★★★

للفيلم أهمية مضاعفة: الأولى من الإنكليزي وليَم شيكسبير، والثانية من الياباني أكيرا كوروساوا، الأول كاتب نصّ المسرحية والثاني مخرج الفيلم الذي تمرّ اليوم ستون عاماً على إنتاجه (١٩٥٧). المسرحية هي «ماكبيث»، واحدة من أشهر مسرحيات الشاعر الإنكليزي، والفيلم، وهو نقلٌ سينمائي حرٌّ للنَّص، أي دون تقيّد كامل به، هو «عرش الدماء»، وهو العنوان الإنكليزي، أو «قلعة العنكبوت»، وهو العنوان الفرنسي متَرجماً عن العنوان الأصلي، الياباني.

لكوروساوا أفلام شيكسبيرية أخرى، وقد يكون (إضافة إلى الأميركي أورسون ويلز) المخرجَ الأكثر اقتراناً بالكاتب الإنكليزي، لا لنقله لأكثر من نصٍّ مسرحي إلى السينما بل أساساً للفنّية العالية لهذه الأفلام التي استحقّت أن يُرفق بها اسم شيكسبير، فكانت أعمالاً فنّية بجودة عالية يمكن أن تُشاهَد كأعمال مستقلة عن النّص الشيكسبيري مضيفةً لهذه النّصوص أبعاداً جديدة متعلّقة أولاً بالشكل (أي الفيلم) كناقل للحكاية، وثانياً بالموضوع إذ تمّ نقل الحكاية كلّها إلى يابان القرون الوسطى الإقطاعية. أما أفلامه الشيكسبيرية الأخرى فهي «الأوغاد ينامون هانئين» (١٩٦٠) المأخوذ عن «هاملت»، و«ران» (١٩٨٥) المأخوذ عن «الملك لير»، وهذا الأخير هو النسخة الأقرب إلى «قلعة العنكبوت» إذ أن الحكاية في كليهما تحوي عناصر كالملوك، المحاربين، الخيانات، المعارك، الغابات، الأسطرة، التراجيديا، وإن كان «ران» ملوّناً وبشكل ساطع، و«قلعة العنكبوت» أبيض وأسود.

قبل فترة تمّ إصدار ١٧ فيلماً مرمَّماً لكوروساوا في فرنسا، وعُرضت في العديد من الصالات، لسبب ما لم يكن هذا الفيلم من بينها، وإن كان من بين أفضل ما أخرجه، نضيف إليه «الساموراي السبعة» و«راشومون» و«إيكيرو» و«القلعة المخفيّة» و«يوجيمبو» وغيرها، إذ يمكن الإضافة والحذف في ذلك لوفرة الأفلام الممتازة لدى المعلّم الياباني.

واشيزو الياباني هو ماكبث في المسرحية السكوتلندية، يقوم بدوره الممثل الأثير لدى كوروساوا وبطل معظم أهم أفلامه توشيرو ميفون. قام سيّدُ واشيزو بترقيته بعدما حقّق انتصارات كقائد في الجيش، وكان واشيزو قد سمع من ساحرة أنّه سيتم ترقيته، وأنّه سيصير بعدها السيّد، مع تقدّم الفيلم تقترب هذه النبوءات من التحقّق، خاصة وأنّه سمعها مع رفيق له تنبأت له الساحرة كذلك بترقية وحصل عليها. يقوم بتحريض من زوجته، وعينُها على العرش، بقتل سيّده، فيصير هو السيّد الذي، بذلك، واصل تحقيق النبوءة التي أتت مرفقة بأخرى وهي أن ابن رفيقه سيصير السيّد من بعده. دبّر قتل رفيقه أما الابن فهرب، فبدأ واشيزو يهجس به، تائهاً بين النبوءات وبين حقيقة كونه سيّداً بجيش قوي، وبين شعوره بكل من الخوف والعظمة، فتوجّه إلى الساحرة مجدداً ليسألها وتخبره أنّه لن يبقى ملكاً إنّ تحرّكت الغابة، فضحك وسخر من فكرة أنّ الغابة يمكن أن تتحرك. أخيراً، بطريقة ما تحرّكت الغابة وتحقّقت النبوءات جميعها.

مَشاهد المعركة الأخيرة من الفيلم قد تكون الأكثر شهرة مما فيه، تحديداً تلك التي تصوّر مقتل واشيزو، السّهام الكثيرة التي تخترق جسده، في تصوير واقعي لا يمكن إلا أن تعلق في ذهن مُشاهدها.

قد يكون بعضنا يعرف الحكاية، من المسرحية أو فيلم آخر، قبل مشاهدة الفيلم، لكن ليس لذلك أقول بأنّ الحكاية ليست، بحد ذاتها، بأهمّية الكيفية التي ستحصل بها، فنحن نعرف من البداية النبوءة، فمن ربع الساعة الأولى نسمع ما يشير إلى النهاية التراجيدية للبطل، ثم مع تقدّم الفيلم وعند كل منعطف نجد أن النبوءات تتحقّق تباعاً، ثمّ، قبل النبوءة الأخيرة التي تشير إلى قتال ما بين الرّفاق، نجد إشارات خفيفة: حصان يهوج هنا وطيور تهوج هناك، ثم، لدى النبوءة الأخيرة التي تقول بأنّه لن يعود سيّداً فقط حين تتحرّك الغابة من مكانها، تحرّكت وصار ما صار.

أمّا تصوير كلّ ذلك، ففيه ما يميّز كوروساوا بلقطاته البعيدة والتقطيع المتواتر للمَشاهد (كالعادة هو من يقوم بالمونتاج) والتداخل بين الواقعي والمتخيَّل الذي يُحدثه، فيصوّر الواقعي، تحرُّك أشجار الغابة مثلاً، وكأنّه هلوسات السيّد الذي صارت النبوءة الأخيرة بمقتله هاجساً لديه، لنكتشف أن الهلوسات كانت صوراً واقعية.

لا يختلف الفيلم، تقنياً، عن باقي أفلام كوروساوا التي يصوّر فيها حكايات محاربين ومعاركهم في يابان القرون الوسطى، إنّما ما يمكن أن يميّزه عن غيره هي التراجيديا الشيكسبيرية والعوالم التي يمكن أن تحملنا إليها، وإن بشخصيات قليلة، فشعورنا بمأساة عظمى تحوم حول البطل التراجيدي حاضر من بداية الفيلم إلى نهايته، فنعرف ما سيحصل له إنّما نراقبه، نراقب سيرَه إلى حتفه، نراقب كيف سيحصل ذلك، دون أن نعرف، إلى ما بعد انتهاء الفيلم، إن كنّا قد تعاطفنا معه أم لا، شفقنا عليه كشخصية تراجيدية أم لا، أردنا له البقاء سيّداً أم لا، وقد قَتل سيّده الذي صار سيّداً بقتل سيّده هو الآخر، وها هو الآن يُقتل من قبل قائد جيشه الذي أمر برميه بالسّهام، في مشهد كيروساويّ/شيكسبيريّ بامتياز.

ستّون عاماً مرّت على الفيلم (Throne of Blood) وما يزال من بين أفضل المقاربات السينمائية لشيكسبير.

في القدس العربي

 

This entry was posted in: 1

بواسطة

روائي وناقد سينمائي فلسطيني، يعيش في باريس. مؤسّس ومحرّر "رمّان الثقافية". له «تأملات في الفيلم الفلسطيني» (٢٠٢٣)، والروايات: «عين الديك» و«سيناريو» و«تذكرتان إلى صفّورية».

تعليق واحد

  1. maryamrayyan says

    مرحبا سليم،

    أتابع بشغف مقالاتك التي تأسرني بجماليات الكتابة والتصوير والنقد.

    مع المحبة،

    مريم ريان

    Sent from my iPhone

    إعجاب

للتعليق..

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.